يعتبر الكثيرون المفكّر الفرنسي (جان جاك روسو) الأب الروحي للثورة الفرنسية، حيثُ كان كتابه (العقد الاجتماعي) محفّزاً لقيامها، وكان الثوار إبان الثورة يحملونه بين أيديهم ويهتفون بشعاراته. وقد تزعزع إعجابي بهذا الرجل بعد قراءتي لكتاب (روسو والمرأة) للدكتور إمام عبد الفتاح إمام، المتضمن عرضاً لآرائه الرجعيّة في المرأة، إضافة لحياته الشخصية المتضمنة ارتباطه بـ«تيريز» المرأة الريفية البسيطة التي وصفها في اعترافاته بأنها كانت غبية ومن أصل وضيع وتجيد فقط الطهو وأعمال المنزل. هذه المرأة التي لم يخجل من نعتها بهذه الصفات هي نفسها المرأة التي ضحّت من أجله وعاشت معه عشرين عاماً، رافضاً الزواج بها، متنكّراً لأطفاله الخمس الذين أنجبهم منها ولم يتردد في رميهم بالملاجئ ليعيشوا كلقطاء، وهو صاحب النظريات الشهيرة في علم التربية! العبارة الشهيرة التي كتبها «روسو» في مقدمة كتابه (العقد الاجتماعي) «ولد الإنسان حراً، وهو مكبّل بالأغلال في كل مكان...»، لم تُبرر له نظرته للمرأة! وقد رأت الكاتبة الفرنسية (سيمون دي بوفوار) بأن روسو فيلسوف الحرية والمساواة كان يقصد الإنسان بالرجل تحديداً في عبارته وليس الجنسين، وأنه ينظر للمرأة كمخلوق ثان لا بد أن تظل تابعة للرجل، وأن لا يُسمح لها بالاستقلالية، وبالتالي لا يحق لها مشاركة الرجل في العمل السياسي. «روسو» عاش حياة التشرّد في باكورة حياته، وكان للنساء فضل في رعايته لأن المناخ الاجتماعي في فرنسا ذلك الوقت كانت تُسيطر عليه النساء من الطبقة المخملية. هذه المساندة من قبل المرأة لم تشفع لها، بل قام من خلال كتابه (إميل أو التربية)، الذي يرى النقّاد بأنه من أجمل الكتب التي كُتبت في التربية، إلا أن روسو ظلّ يؤكد على أن المرأة لم تُخلق للعلم ولا للحكمة ولا للفن ولا للسياسة، وإنما خُلقت للقيام بوظيفة محددة هي الأمومة، ولم يجعل للمرأة العانس والعاقر مكاناً في حساباته الشخصيّة! من خلال قراءتي للكتاب، لاحظتُ تركيز الكاتب على شخصية روسو المتناقضة! فعلى الرغم من دفاع روسو عن حقوق الفقراء ودعوته لمبادئ العدالة الاجتماعية المتمثلة في الحرية والمساواة، إلا أنه كان يُناقض نفسه بين ما كان يُطالب به وما كان عليه! حيث أعتمد على سطوة النساء في تسيير أمور حياته، لكنه كتب عنهن أسوأ الأوصاف في اعترافاته. كما احتمى من نير المعارضين له بالنبلاء والأغنياء المعجبين بفكره وعاش بينهم ثم تنكّر لهم وهاجمهم وأنهم أصل الفساد والانهيار الأخلاقي في بلده فرنسا. عندما هاجم «روسو» صور المدنيّة الحديثة بأشكالها المتنوعة، رد عليه (فولتير) قائلاً: «لقد تلقيّتُ كتابك الذي تُهاجم فيه المدنيّة والنوع الإنساني والآداب... عندما يقرأ المرء كتابك تتملكه الرغبة في المشي على أربع وقد أقلعتُ عن هذه العادة منذ أكثر من ستين عاماً... ما يجعل الدنيا وادياً للدموع هو جشع الناس، أما الأدب فهو يُغذي الروح. إنه يخلق مجدك في نفس الوقت الذي تُهاجمه فيه...». جان جاك روسو الذي يُعتبر من أهم مفكري عصره، كان رجلا مزدوج المعايير! لقد هاجم الفنون رغم أنه أهدر جزءاً من حياته في نسخ النوتة الموسيقية، وعلى كتابة عدد من الروايات والمسرحيات الغرامية! فهل «روسو» هو نموذج متكرر لازدواجية المثقف في عصرنا الحالي؟! هل كان بالفعل ينظر للمرأة نظرة دونية بدليل استغلاله لامرأة بسيطة، لم تكن تفهم شيئاً مما يكتبه ثم شوّه معالمها في اعترافاته؟! روسو لم يعد موجوداً، وسيظل لغزاً غامضاً مثل كثير من المفكرين الذين رحلوا عن عالمنا وتركوا خلفهم علامات استفهام كبرى!